إبراهيم شقلاوي يكتب: السودان: حسابات الردع والسياسة..!

منذ اندلاع حرب السودان في 15 أبريل 2023 تحولت البلاد إلى ساحة صراع لا يقتصر على المواجهة المسلحة بين الجيش وميليشيا الدعم السريع، بل تعدّاها إلى ميدان تنافس إقليمي ودولي على النفوذ والموارد، في إطار تحولات أعادت تعريف معادلة الردع والسيادة في السودان.
حيث كشفت تطورات النزاع أن الأمر لم يكن نتاج احتقان سياسي داخلي فحسب، بل امتداد لتآمر خارجي يستهدف اختطاف الدولة وتفكيك مؤسساتها. فالسودان بما يملك من ذهب ونفط ومياه وأراضٍ خصبة وثروة حيوانية، صار محط أطماع القوى التقليدية والصاعدة، في سباق محموم لإعادة رسم الجغرافيا السياسية للقرن الإفريقي.
في هذا السياق تراجعت فاعلية المنظمات الإقليمية وعلى رأسها الاتحاد الإفريقي، وباتت مواقفها رمادية متأرجحة بين شعارات حماية المدنيين ودعوات الانتقال الديمقراطي. هذا الضعف كشف فراغًا في المنظومة الإقليمية، وفتح الباب أمام القوى الدولية لتكثيف تدخلاتها، مما زاد تعقيد الأزمة وأضعف أي فرصة لمعالجتها من الداخل.
أحد أهم الدروس المستفادة يتمثل في ضرورة إعادة بناء عقيدة الردع الوطني، وهو أمر لا يتحقق إلا بجيش موحد قادر على ممارسة فعل السيادة.
وقد مثلت الأخبار المتداولة حول صفقات تسليح كبرى مع الصين وباكستان وروسيا نقطة تحول في فلسفة الردع العسكري . فالصفقة الأخيرة مع باكستان التي تجاوزت قيمتها 1.5 مليار دولار، أدخلت السودان عصر الطائرات المسيّرة والأنظمة الدفاعية الحديثة، فيما تعكس الصفقة مع روسيا رغبة الخرطوم في تنويع مصادر التسليح وتوطين التكنولوجيا، ضمن مقاربة تهدف إلى تحقيق توازن قوى إقليمي يحرر القرار الوطني من الارتهان.
هذه التحركات تزامنت مع تزايد الحضور الدولي في المشهد، حيث بات السودان ساحة تنافس غير مباشر بين محاور متقابلة: محور سعودي مصري تركي باكستاني، في مواجهة محور إماراتي فرنسي إسرائيلي، بينما تتقاطع المصالح الأميركية والصينية والروسية على أرضه. ويكتسب هذا التنافس بعدًا أكثر خطورة مع تحوّل البحر الأحمر إلى مسرح صراع جيوسياسي يضع السودان في قلب معادلة التوازن الإقليمي الجديدة .
ولم يقتصر التدخل على الصعيد العسكري، بل ظهرت محاولات تشكيل حكومة موازية في دارفور انطلاقًا من نيالا، في إطار مشروع إقليمي يسعى لتقويض المركز وتكريس التعددية السياسية الهشة، على نحو شبيه بما جرى في ليبيا واليمن. هذه المحاولات تكشف أن بعض القوى ترى في الحالة السودانية مدخلًا لإعادة تشكيل التوازنات في المنطقة عبر تمكين أطراف مصنوعة وتهميش القوى الوطنية الحقيقية.
ولذلك فإن امتلاك السودان لقوة ردع حقيقية لم يعد خيارًا بل ضرورة وجودية، خاصة في ظل الانكشاف السياسي الداخلي. فالجيش السوداني لم يخض المعركة منفردًا، بل ارتكز على قاعدة وطنية عريضة ضمت قوى سياسية وفكرية كان لها دور حاسم في معركة الكرامة ، وقدمت أكثر من ستة آلاف شهيد في ميادين القتال الممتدة من الخرطوم إلى دارفور وكردفان.
هذه القوى على اختلاف مشاربها، التقت عند هدف مركزي هو الحفاظ على وحدة السودان واستقلاله بعيدًا عن الوصاية الخارجية، ونجحت في أن تقدم نفسها ككتلة تاريخية متماسكة تتعامل مع الواقع بمرونة وبراغماتية، دون أن تتنازل عن المبادئ الوطنية الكبرى.
في المقابل تعمل قوى إقليمية ودولية على فرض تسوية سياسية هشة تقوم على تعويم قوى مدنية مصنوعة أو مأزومة، لا تملك امتدادًا شعبيًا ولا مشروعًا وطنيًا، فتجد نفسها مضطرة إلى الارتهان للخارج وتبني سرديات تبرر انحيازها لمليشيا تستخدم العنف والانتهاكات وسيلة للسيطرة. هذا النهج يهدف إلى إنتاج مشهد سياسي مشوه يُضعف الدولة ولا يبنيها.
أما الولايات المتحدة فقد أدارت الملف السوداني طويلًا عبر وزارة الخارجية في إطار ما يسمى بالحياد المشروط، لكن التطورات الأخيرة، وعلى رأسها زيارة رئيس مجلس السيادة إلى سويسرا ولقاؤه مبعوث الإدارة الأميركية مسعد بولس عكست انتقال الملف إلى مؤسسات القرار السيادي في البيت الأبيض. ويبدو أن CIA والبنتاغون دفعتا بهذا التحول بعد تقارير رصدت صعود الجيش السوداني كقوة إقليمية مدعومة من روسيا والصين وإيران، ما جعل واشنطن تخشى أن يفضي غياب الاحتواء إلى بروز قوة جديدة تهدد مصالحها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
تحاول واشنطن الموازنة بين دعم المؤسسة العسكرية والتحذير من صعود التيار الإسلامي، لكن هذه المقاربة تصطدم بالواقع السوداني حيث يشكل الإسلاميون جزءًا أصيلًا من البنية السياسية والاجتماعية، ولهم دور واسع في التعبئة الوطنية لصالح الجيش.
ومن هنا، تبرز الحاجة إلى أن تحسن القيادة السودانية التوازن بين استيعاب الداخل والانفتاح على الخارج دون الارتهان له، إذ أن وحدة الجبهة الوطنية قادرة على إحباط أي أجندة خارجية مهما كانت قوتها.
السودان اليوم أمام مفترق طرق : فإما أن يعيد الإمساك بمصيره من خلال ترسيخ معادلة توازن تقوم على القوة والشرعية والوعي، أو أن يستمر ساحة تنازع تستغلها القوى الإقليمية والدولية لمشاريعها الاستعمارية. لذلك بناء السياسة الخارجية يجب أن يرتكز على تحقيق توازن استراتيجي بين المحاور الدولية، وتثبيت الداخل على قاعدة السيادة والمصلحة الوطنية العليا.
إن النجاح العسكري لا يكفي ما لم يُرافقه جهد سياسي يعيد ترتيب الساحة وفق معيار الانحياز للمشروع الوطني لا الولاءات الضيقة. فبناء جبهة وطنية عريضة قادرة على تجاوز الثنائيات الزائفة هو الضامن لأي سلام مستدام وتحول ديمقراطي حقيقي. وقد أثبتت الأحداث أن الرهان على الخارج لا يبني وطنًا، وأن السودان لا يدار من عواصم أجنبية ولا من غرف مغلقة، بل بإرادة أبنائه الذين يملكون وحدهم الحق في صياغة مستقبله.
بحسب #وجه_الحقيقة فإن الردع في السودان لم يعد مسألة عسكرية فحسب، بل قضية سياسية شاملة تؤسس لمشروع وطني جامع وتعيد تعريف موقع السودان في الخريطة الإقليمية والدولية، بما يحصن خياراته الوطنية ويمنع اختطاف مستقبله مهما كانت الضغوط والتحديات.
دمتم بخير وعافية.
الخميس 4 سبتمبر 2025 م Shglawi55@gmail.com