إبراهيم شقلاوي يكتب: فراغ التشريع وابتزاز السياسة..!

لم يعد بالإمكان تأجيل استكمال مؤسسات الحكم الانتقالي، وعلى رأسها المجلس التشريعي. فقيام حكومة المليشيا في نيالا، مدعومة بمحاور إقليمية وداعمين محليين، يضع البلاد أمام سيناريوهات ضاغطة تفرض تحركات سريعة، بل واستباقية من الحكومة السودانية في الخرطوم ، حتى لا تجد نفسها أمام وقائع يصعب تعديلها لاحقًا.
الجيش السوداني اليوم، وبحكم معادلات الحرب و تطورات الميدان، أصبح اللاعب الرئيس في المشهد السياسي. غير أن تحميله منفردًا عبء إدارة الدولة، في لحظة مصيرية كهذه يعتبر غير عادل، بجانب أنه محفوف بالمخاطر. فالمعادلات القادمة، سواء على صعيد الأمن القومي أو إعادة هندسة التحالفات الدولية والإقليمية، تتطلب قرارات كبيرة لا يجب أن تُتخذ من قبل مؤسسة واحدة، مهما بلغت وطنيتها أو قوتها أو الثقة فيها.
في المقابل تواصل حكومة المليشيا في نيالا، بدعم إقليمي تقديم نفسها كبديل سياسي جاهز، من خلال مغازلة المجتمع الدولي والانخراط في خطاب يتماهى مع بعض الأجندات الخارجية.
فقد أعلنت عن تبني العلمانية، وإقامة علاقات مع إسرائيل، والاستعداد للانضمام إلى اتفاقية “سيداو”، بل ومَنح المثليين حقوقًا قانونية، إلى جانب حظر نشاط الإسلاميين. هذه الإعلانات تُبثّ في الهواء الطلق دون تفويض شعبي، كجزء من معركة طواحين الهواء تهدف إلى كسب الاعتراف الخارجي، وإحراج حكومة الخرطوم الوطنية .
الأخطر من ذلك ، أن ما يجري يعتبر استخدام ممنهج لأدوات الابتزاز السياسي، إذ تسعى حكومة نيالا لفرض نفسها كواقع جديد من خلال “التطابق الاستراتيجي” مع تطلعات قوى إقليمية ودولية، في حين تجد الخرطوم نفسها تحت ضغط متزايد، تُدفع فيه ضمنيًا إلى تقديم تنازلات، أو على الأقل الدخول في سباق لإثبات “الاعتدال والانفتاح”، على حساب الهوية الوطنية والقرار السيادي.
هذه التطورات تضع البلاد على مفترق طرق حقيقي: فإما المسارعة بتشكيل مجلس تشريعي وطني، من الكفاءات الوطنية والرموز المجتمعية التي تحظى بالاحترام، وتكون قادرة على تحمّل المسؤولية التاريخية مع الجيش والحكومة، وتمنح القرارات المصيرية وزنها السياسي والتاريخي. أو الاستسلام لمعادلة الفراغ التي لا تبقى أبدًا فارغة، فتُملأ بأجندات مفروضة، ووقائع يصعب تغييرها لاحقًا.
فالانتظار حتى إجراء الانتخابات بعد ثلاث سنوات، في ظل اختلال التوازنات الحالية ، ليس خيارًا آمنًا. فالتحولات في الإقليم لا تنتظر، والفراغ السياسي سيكون ثغرة خطيرة في جسد الدولة السودانية، تُستغل لصالح أجندات لا تعبأ بمصالح السودان أو استقراره. كما أن استمرار غياب المجلس التشريعي، منذ سقوط نظام البشير في أبريل 2019، ترك السلطة التشريعية في حالة من السيولة ، حتى بعد انتقالها عبر اجتماعات مشتركة بين مجلسي السيادة والوزراء.
إن تشكيل مجلس تشريعي انتقالي، بصيغة توافقية، من كفاءات تحظى بالاحترام والقبول المجتمعي والتمثيل الجغرافي بمن فيهم ممثلو الإدارة الأهلية وقوى السلام وكافة الوطنيين أصبح ضرورة وطنية عاجلة.
فالمشهد الراهن ينبئ بمعارك قادمة، ليس فقط في ميادين القتال، بل على طاولة المفاوضات الاقتصادية والسياسية، حيث يُرجح أن تخضع البلاد لضغوطات وابتزازات إقليمية ودولية، تستهدف مواردها وخياراتها الاستراتيجية.
إذا نحن أمام مفترق طرق : إما أن نُبادر بصناعة واقع سياسي يعبر عن الإرادة الوطنية ويحصّن البلاد من الابتزاز المحتمل ، أو ننتظر رياح التحولات الإقليمية القادمة لتفرض علينا واقعاً مخزيآ.
وفي هذا السياق، فإن الانخراط في تجمعات اقتصادية كبرى مثل “البريكس”، أو إعادة صياغة تحالفاتنا أو اتفاقياتنا الدولية الأمنية والسياسية ، تتطلب قرارات من العيار الثقيل، لا يجوز اتخاذها دون غطاء سياسي تشريعي يضفي عليها المشروعية ويحمي من أي ارتدادات .
لقد نقلت الاخبار أن اللجنة السياسية التابعة لمجلس السيادة بدأت مشاورات فعلية لتشكيل المجلس التشريعي، بمشاركة قوى سياسية ومجتمعية، في محاولة لإعادة هيكلة السلطة الانتقالية وتوسيع قاعدتها. ومع ذلك، لا تزال التحديات كبيرة، بدءًا من جدلية التعيين مقابل الانتخاب، ومرورًا بالمعايير التي ستُعتمد في اختيار الأعضاء، ووصولًا إلى تفسير مصطلح “القوى الوطنية” الوارد في الوثيقة الدستورية المعدلة لعام 2025.لذلك الوقت لا ينتظر المماحكة والعمل الديواني للجان .
فبينما ترى بعض القوى أن التعيين يتعارض مع مبادئ الديمقراطية، يشير الواقع السياسي والظرف الاستثنائي الذي تمر به البلاد إلى أن الحلول المثالية قد لا تكون متاحة، وأننا بحاجة إلى حلول واقعية مرحلية عاجلة، تستند إلى التوافق وتضمن تمثيلًا عادلًا يراعي التوازنات الحساسة.
إن تشكيل المجلس التشريعي – حتى لو تم بالتعيين المؤقت – يمكن أن يشكل بوابة لإعادة الحياة السياسية إلى مسارها الطبيعي. فمن خلاله يمكن مراقبة الحكومة، وسن القوانين، والمصادقة على الاتفاقيات، والأهم من ذلك، تعزيز الثقة بين المكوّنات السياسية والعسكرية، في المرحلة الانتقالية.
بحسب#وجه_الحقيقة فإن التحولات العنيفة التي تشهدها البلاد والمنطقة تحتم علينا بناء مؤسسات قادرة على حماية القرار الوطني، وتمنح الدولة القدرة على المواجهة والتفاوض من موقع قوة، لا من موقع ضعف. إن بلادنا اليوم بحاجة إلى شرعية مؤسسية تتحدث باسمها، وتدافع عن مصالحها، وتواكب اللحظة التاريخية، قبل أن نجد انفسنا امام واقع لا نستطيع احتماله.
دمتم بخير وعافية.
الاثنين 8 سبتمبر 2025م Shglawi55@gmail.com