آخر الأخبار
الاخبار

إبراهيم شقلاوي يكتب: الجامعات السودانية.. تحدي البقاء..! 

 

أعلنت الأسبوع الماضي وزارة التعليم العالي نتائج القبول للجامعات للعام 2023–2025، وسط تحديات تهدد بنية التعليم الجامعي وتضع مستقبل الآلاف من الطلاب أمام مفترق طرق. فالجامعات التي طالها الدمار بفعل الحرب باتت مظهر لأزمة ربما تتعلق برؤية التعليم نفسه، وجدواه وموقعه في مشروع الدولة السودانية الحديثة بعد الحرب.

 

ورغم الجهود التقنية التي ظلت تبذلها وزارة التعليم العالي لضمان عدالة القبول، فإن الأرقام تكشف عن عزوف  تجاوز 40% من الطلاب المؤهلين عن التقديم للجامعات الحكومية. هذا الرقم لا يمكن فصله عن تداعيات الحرب وفقدان الثقة في مخرجات التعليم، وتراجع جاذبية التخصصات التي كانت تمثل أعمدة النهضة الوطنية.

 

في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها العالم اليوم، أصبح تطوير المناهج وتحديث الكليات ضرورة حتمية لأي مؤسسة تعليمية. وبينما تخطو الدول المجاورة خطوات سريعة نحو دمج الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والروبوتات في أنظمتها التعليمية، لا تزال غالبية الجامعات السودانية عالقة في نماذج تقليدية لا تتماشى مع طبيعة الاقتصاد المعرفي القادم.

 

ولعل المفارقة الأشد وضوحاً تظهر في عزوف الطلاب عن الالتحاق بتخصصات مثل الفيزياء والرياضيات، أو الزراعة والهندسة الصناعية والتربية تخصصات تُعد اليوم في دول العالم ركائز الثورة الصناعية الرابعة.

 

فهل يعني ذلك أن الجامعات لم تُحدّث رؤيتها لتلك التخصصات؟ أم أن الطلاب يرون فيها بوابات لمستقبل مسدود بلا أفق وظيفي أو تطبيقي حقيقي؟ مهما يكن، فإن هذا العزوف يضعنا أمام ضرورة مراجعة فلسفة التعليم ومآلاتها ومجالاتها التي تواكب رؤية الدولة السودانية الجديدة.

 

رغم التدهور الحاصل، ما زالت جامعة الخرطوم تحافظ على مكانتها الرمزية والأكاديمية، لكن هذا “الألق القديم” وحده لا يكفي في عصر تتطلب فيه الجامعات أن تكون مراكز ديناميكية للإبداع والتطوير، لا مجرد حاضنات للمعلومات النظرية. واقع الأمر أن مكانة الجامعات تُقاس اليوم بمدى ارتباطها بسوق العمل، وقدرتها على إنتاج المعرفة القابلة للتوظيف، وليس فقط بماضيها العريق.

 

تكشف الأرقام الرسمية أيضاً عن خريطة تعليمية معطوبة، حيث أصبحت ولايات دارفور وجنوب وغرب كردفان مناطق مغلقة فعلياً أمام التعليم الجامعي، بفعل سيطرة مليشيا الدعم السريع وغياب مؤسسات الدولة. هذا الإغلاق يُسهم في تعميق الفجوة التنموية والمجتمعية بين المركز والريف بحانب أنه ربما يُهدد  مستقبل التعليم في هذه الولايات ، ما ينذر بتراكم أسباب عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي مستقبلاً.

 

من الملاحظ أن نسبة لا بأس بها من الطلاب اتجهت نحو الجامعات الخاصة، مثل الجامعة الوطنية وجامعة الأحفاد، رغم ضعف الإقبال العام على التعليم العالي. ولكن هذا التوجه، وإن كان يُعطي انطباعًا بوجود بدائل، إلا أنه يكشف أيضاً عن محدودية الخيارات أمام الطلاب، خاصة في ظل الفروقات الكبيرة في الجودة بين مؤسسات التعليم الخاص والحكومي، والتكلفة المادية التي تُقصي فئات واسعة من الطلاب.

 

من واقع هذا المشهد، تبرز الحرب التي أظهرت التجربة أن الطالب السوداني ليس فقط متلقيًا سلبيًا ، بل فاعلًا في الشأن الوطني، إذ لبّى آلاف الطلاب نداء المقاومة الشعبية، وحملوا السلاح و قدّموا العون اللوجستي والإعلامي للقوات المسلحة. هذه التجربة لا ينبغي أن تُنسى، بل يجب أن تتحول إلى مكون أصيل في العملية التعليمية: نحتاج تعليمًا يُخرّج طلابًا يعرفون كيف يُحبّون وطنهم، لا كيف يغادرونه.

 

ليس الهدف عسكرة التعليم، بل بناء وعي مدني راسخ، من خلال مناهج تُدرّس مفاهيم الخدمة الوطنية، وإدارة الأزمات، والوعي بالأمن القومي، وربط المعرفة بالسياق الوطني. الجامعات يجب أن تتحول إلى مراكز بحث في قضايا الكوارث والطوارئ والنزاعات، بجانب التكنولوجيا.

 

ولا تقل أهمية عن ذلك تجارب آلاف الطلاب الذين وجدوا أنفسهم خارج السودان والتحقوا بجامعات في الخارج، فعادوا بخبرات مختلفة في طرق التدريس والبنية الإدارية واستخدام العلم الحديث. هذه الفئة تمثل موردًا معرفيًا يجب الاستفادة منه، جنبًا إلى جنب مع الأساتذة السودانيين في الاغتراب ، لصياغة رؤية جديدة للتعليم العالي.

 

من هنا، بحسب #وجه_الحقيقة يصبح تطوير التعليم العالي مشروعًا وطنيًا. يبدأ بإعادة هيكلة الجامعات، وتحديث المناهج، وتحفيز البحث العلمي، وربطه باحتياجات السوق والمجتمع. فلا تنمية دون تعليم، ولا أمن دون تعليم، ولا مستقبل بلا تعليم. والخيار أمام بلادنا بات واضحًا: إما الإصلاح الجاد والجذري لمنظومة التعليم بما يتماشى مع العصر، أو المراوحة في نماذج بالية تُغذّي اليأس وتعمّق الفجوة بين المواطن والدولة.

دمتم بخير وعافية.

 

الثلاثاء 9 أغسطس 2025م    Shglawi55@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى