آخر الأخبار
الاخبار

إبراهيم شقلاوي يكتب: زحام المبعوثين والبنك الدولي

 

تعيش الخرطوم هذا الأسبوع حالة غير مألوفة من الحركة الدولية، وفود تتقاطع، ومبعوثون يتناوبون، ومؤسسات مالية كبرى تعود فجأة إلى المشهدٍ. يبدو أن الأمر جزء من قراءة تتشكل بهدوء، تشير إلى أن القوى الكبرى بدأت تفكر في السودان باعتباره ملفًا يقترب من التحول.

حين يظهر البنك الدولي في هذا التوقيت بالذات، ويلتقي بوزير المالية جبريل إبراهيم، فالمسألة تتجاوز الأرقام والميزانيات إلى المعاني التي لا تُقال صراحة في البيانات الرسمية، في هذا المقال نحاول قراءة هذا المشهد.

شهد السودان خلال الأيام الماضية حركة دبلوماسية غير مسبوقة، زيارات لمبعوثين دوليين بعضها سرية ومؤسسات مالية كبرى، في مشهد يعكس ، عودة الاهتمام الدولي والإقليمي، ومحاولة صياغة مقاربات جديدة للتعامل مع التطورات المتسارعة على الأرض. فبينما زار البلاد المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة رمطان العمامرة، والمبعوث البريطاني ريتشارد كرودو، حلّ وفد البنك الدولي في أول زيارة رفيعة منذ تعليق العلاقات عام 2021م، في وقت تتحرك فيه عواصم عديدة إقليمية ودولية لإيجاد معادلة للسلام في البلاد.

فمن المعلوم أن البنك الدولي لا يتحرك بعيدًا عن الإرادة الأمريكية ولا عن رؤيتها لمستقبل الدول . وعودة الوفد إلى السودان تعكس بداية تحوّل في النظرة الأمريكية نحو “اليوم التالي للحرب”. فواشنطن حين تقترب، لا تقترب إلا وهي تعتقد أن وقت ترتيب الأوراق قد حان، أو أن موازين القوى على الأرض اتجهت نحو مسار يمكن البناء عليه. ومع ذلك يبقى السؤال الأصعب في الداخل: هل يحتاج السودان إلى قروض البنك الدولي أصلًا؟ أم أن ما يحتاجه حقًا هو نموذج تنموي مختلف.

الحقيقة أن السودان لا يحتاج مزيدًا من الديون التي جرّبها لعقود، وعرف كيف تتحول من دعمٍ ناعم إلى قيدٍ صلب يحكم السياسات ويكبّل الخيارات. السودان يحتاج قبل كل شيء إلى إعادة تعريف مشروعه التنموي على أسس تجعل السياسات التجارية هي قائد الاقتصاد ومحركه الأول، بينما تصبح السياسات المالية والنقدية خادمة لهذا الاتجاه لا متحكمة فيه.

يحتاج نموذجًا داخليا تحركه مقاصد الإنتاجية والعدالة والتكافل الاجتماعي، وتعيد فيه الدولة بناء علاقتها بالموارد وفق رؤية تجعل الإنسان مركز العملية التنموية وقائدها لاوقودها و هامشها.

في عالم اليوم الذي يضج بالأطماع وتشابك المصالح، لن ينهض الاقتصاد السوداني دون علاقات اعتماد متبادل مع دول الجوار والقوى الاقتصادية الكبرى، عبر شراكات استراتيجية تشاركية مع دول عملاقة مثل الصين اوتركيا اوروسيا . شراكات قائمة على المصالح المتبادلة لا الإملاءات، وعلى التقنية لا التبعية، وعلى الاستثمار الواعد لا القروض المكبلة.

وهذا يستدعي ، إصلاحًا جذريًا لنظام الاقتصاد و التعليم، يعيد الاعتبار للعلوم التجريبية والتقنية إلى جانب دراسة الإنسان والقيم ، ويؤسس لإقتصاد معرفي منتج يملك أدواته، لا يشتريها جاهزة من الخارج.

كما تحتاج البلاد إلى إصلاح نظام الحكم في ظل حاكمية المؤسسة العسكرية ، والتوسع في اللامركزية بما يتيح لكل ولاية أن تنشئ نموذجها التنموي الخاص، ليصبح مجموع التنمية المحلية هو عماد التنمية القومية.

ولا يمكن تجاهل دلالة توقيت زيارة البنك الدولي. فهي تأتي قبل أسابيع قليلة من إعداد موازنة العام 2026، وفي ظل تراجع كبير لقيمة الجنيه السوداني، ما يفتح المجال أمام هذه المؤسسات للتأثير المبكر على أولويات الصرف وسياسات الدعم والتحرير الاقتصادي. فالتوقيت يوفر فرصة للضغط المبطن لإدخال “وصفات جاهزة” ضمن الموازنة، قد تعمّق التبعية المالية والسياسية إذا لم تحكم الحكومة إرادتها الوطنية وتضع رؤيتها التنموية فوق كل اعتبار خارجي بالنظر إلى المواطن الذي يعاني المسغبة.

ولأن القروض الدولية ، مهما تلون خطابها ، كانت دائمًا حبالًا ناعمة لسيطرة خشنة، فإن التحذير واجب. فكل الدول التي نهضت اقتصادية بدأت أولًا بالتحرر من ديون البنك الدولي قبل أن تبني تجربتها المستقلة. ولا تبدو زيارة الوفد اليوم بريئة من هذا السياق، فهي تأتي في لحظة يوشك فيها السودان على قلب المعادلة ، وكأن المطلوب أن يُدار تطويقه اقتصاديًا بعد أن فشلت محاولات تطويقه عسكريًا.

إن زحام المبعوثين، وعودة البنك الدولي، ليست علامات على انتصار دبلوماسي، بل إشارات إلى أن العالم بدأ يستعد لمرحلة جديدة في السودان، ويحاول الجلوس مبكرًا حول المائدة التي لم تُفرش بعد. لكن هذه المرحلة لن يحددها الخارج، ولن يصوغها المانحون، بل ستتشكل بما يقرره الداخل: بقدرته على تجاوز أخطاء الماضي، واستعداده لأن يبني نموذجًا تنمويًا وسياسيًا يعيد للسودان مكانته وكرامته ودوره في القيادة.

لكن السؤال الأكثر أهمية يقع داخل الخرطوم نفسها : هل نحن أمام فرصة أم أمام لحظة أخرى من الخداع الدولي؟ فالتجارب السابقة تقول إن القوى الكبرى لا تمنح الاستقرار لأحد، هي تمنحه لمن يملك القدرة على فرض معادلته، ثم تقف معه حين تتيقّن من قدرته على حماية مصالحها. بمعنى آخر: الاستجابة الأمريكية لليوم التالي للحرب ليست اعترافًا مجانيًا بالدولة السودانية، بل اختبارًا لمدى قابليتها للعودة كلاعب حقيقي، ضمن الحلفاء.

بحسب #وجه_الحقيقة يبقى مستقبل السودان مرهونًا بقدرته على أن يمسك زمام المبادرة ، وأن يرفض أن يُقاد عبر القروض أو عبر “برامج الإصلاح” الجاهزة. فالبلاد التي تنهض حقًا هي البلاد التي تعرف كيف تبني ذاتها . وإن كانت الخرطوم اليوم تقترب من نهاية حرب، فإن عليها أن تبدأ حربًا أخرى: حرب الأمل ، حرب السياسات، وحرب التحرر من التبعية. تلك هي المعركة التي ستحدد شكل الغد، وتفتح الطريق لبلاد تستحق أن تُبنى بيد أبنائها، لا بوعود المؤسسات العابرة للقارات.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 3 نوفمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى