آخر الأخبار
المقالات

إبراهيم شقلاوي يكتب: يا اخيا دي الدنيا معدودة أياما..

 

“حليوة يا بسامة، الفايح  نساما، الريدة في قولبنا، الله علاما، طالبين سلاما، يا خيا دي الدنيا، معدودة أياما”. هذه الكلمات للشاعر تجاني حاج موسى، تفتح لنا نافذة على عالم الحزن والحنين والحكمة في التراث الكردفاني ، الذي جسده عبد القادر سالم بأسلوبه الفريد وعبقريته الناضجة .

 

لقد كان سالم دائمًا حريصًا على أن تصل أحاسيس السودان في البيئة المحلية بكل آمالها وأحلامها وعنفوانها ورجائها، مع التسليم بالقضاء والقدر إلى المستمع الذواق ، حاملاً صوته وألحانه كمرآة للوجدان الوطني.

 

لم تكن معرفتي بالدكتور عبد القادر سالم معرفةً من مقاعد الاستماع أو من ذاكرة الأغنية وحدها، بل عرفته عن قرب، زميلًا في تجربة الدولة، حين جمعتنا وزارة تنمية الموارد البشرية في لحظة تأسيسها الأولى.

 

هناك بعيدًا عن الأضواء، رأيت عبد القادر سالم الإنسان كما هو: هادئًا، ودقيقًا، ومنصتًا، يعمل بصمت الفكرة ، لا بانفعال الفنان. كنا معًا ضمن الطاقم الإداري الذي شهد البدايات الأولى لوزارة دخلت حديثًا إلى التشكيل الوزاري، وكان واضحًا منذ اللحظة الأولى أن الرجل يحمل حسًّا مؤسسيًا عاليًا، وقدرة نادرة على تحويل الروية الثقافية إلى ممارسة إدارية منتبهة.

 

في تلك التجربة وتحت قيادة الوزير  كمال عبداللطيف عبدالرحيم، الذي حرص على تحقيق انسجام حقيقي بين مختلف مستويات القيادة، برز عبد القادر سالم كأحد أكثر الشخصيات قدرة على الربط بين الثقافة والتنمية، وبين الفن تعبيرًا وجدانيًا، و موردًا بشريًا ورافعة وعي . لم يكن حضوره طارئًا أو عابرًا ، بل كان جزءًا من روح التأسيس، ومن الفهم العميق لدور الدولة في رعاية الإبداع وتقنينه ونظمه لا تكبيله ومصادرته.

 

من هذا الموقع ، جاء دوره المفصلي في تأسيس مجلس المهن الموسيقية والمسرحية، كجهد حاكم للعملية الفنية الإبداعية. عرفته وهو يتابع، بإصرار وصبر، مسار قانون المجلس منذ عام 2006، متنقلًا بين وزارة الثقافة ووزارة العدل ومجلس الوزراء، حتى اكتمل الاعتراف القانوني بالموسيقى والمسرح كمهن منظّمة. وحين أصبح المجلس حقيقة، لم يكن اختياره أمينًا عامًا له سوى تتويجٍ طبيعي لمسارٍ قاده بعقله وفكرته قبل اسمه، وبعمله قبل رمزيته.

 

شغل وظيفة الأمين العام المؤسس في ظل رئاسة الاستاذ علي مهدي نوري، كان عبد القادر سالم  “الدينمو” الحقيقي للمجلس: صاغ اللوائح، وأسهم في بناء الهياكل، ووضع تصوّر اللجان، من القيد وترقية المهنة إلى الشكاوى والعلاقات الخارجية، مؤمنًا بأن إصلاح الساحة الفنية لا يتم بالشعارات، بل بالسياسات، وحماية الحقوق، ورفع المعايير المهنية، مع احترام خصوصية السياق القيمي السوداني واستلهام التجارب العالمية.

 

تميز سالم الذي ولد في العام 1943 بكونه باحثًا أكاديميًا ومؤسسًا لمؤسسات ثقافية، حيث حصل على الماجستير والدكتوراه في الموسيقى من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، وشارك في بناء أجيال واعية من الطلاب والمبدعين. تغنى سالم  لشعراء كبار مثل عبد الله الكاظم، وقاسم عثمان، وفضيلي جماع ، وهاشم صديق وإسماعيل حسن، وحقق من خلال ذلك مزجاً بين التجربة الفنية والوعي الثقافي. يُعد  سالم من رواد الأغنية الكردفانية، إلى جانب عبد الرحمن عبد الله ورمضان زايد وآخرين.

 

رحيل عبد القادر سالم يعتبر غياب رجل دولة في الفكر والفن، جمع بين الرصانة الأكاديمية، والأصالة الموسيقية، والانتماء الوطني. فقد ترك إرثًا موسيقيًا متجذرًا في التراث، وأثرًا لا يُمحى، ومسارًا متفردًا يربط بين الأغنية، والبحث، والسياسة و الثقافة ، وصناعة المؤسسات. بقي سالم خالدًا في صوته، وفكره، ومؤسساته ، شاهداً على قدرة السودان على الجمع بين الأصالة والحداثة، الفن والسياسة، التراث والتنمية والقيم .

 

نعته الدولة عبر مجلس السيادة  ووزارة الثقافة والإعلام والسياحة، بأنه يمثل خسارة كبرى للمشهد الفني والثقافي السوداني. وقد أشار البيان الرسمي الصادر عنهما إلى أن الفقيد كان سفير الأغنية السودانية ورائد الأغنية الكردفانية، حافظًا للتراث، ومؤثرًا على الثقافة الوطنية والأجيال .

 

لهذا، فإن رحيله لا يُعد فقدان فنانٍ كبير فحسب، بل غياب شاهد عصر، وأحد الذين حاولوا، بهدوء وحكمة، أن يعيدوا الاعتبار للفن بوصفه ركنًا من أركان بناء الإنسان. نحتسبه اليوم ونحن نعرف حجم ما حمله على عاتقه، وما أنجزه بعيدًا عن الضجيج، وما تركه من أثرٍ سيظل حاضرًا في بنية الثقافة والوطنية، لا في ذاكرتها الغنائية وحدها.

 

رحيله بحسب #وجه_الحقيقة يمثل غياب رجل دولة في الفكر والفن واحد ممسكات اللحمة الوطنية، جمع بين الرصانة الأكاديمية، والأصالة الموسيقية، والانتماء الوطني. ترك إرثًا ثقافيًا وأكاديميًا لن تزول آثاره، وستظل أغانيه ومؤسساته دليلاً للأجيال القادمة على قدرة السودان على الجمع بين الأصالة والحداثة، التراث والتنمية، الفن والسياسة.

 

نسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته وأن يلهم أهله ومحبيه وتلاميذه الصبر وحسن العزاء، إنا لله وإنا إليه راجعون.

دمتم بخير وعافية.

الأربعاء 17 ديسمبر 2025م  Shglawi55@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى