عزمي عبد الرازق يكتب: نريد الخرطوم مثل طوكيو .. لو حتى نبدأ من الصفر

بعد نهاية هذه الحرب سوف يتفاجأ كثير من السودانيين بأن بلادهم دُمّرت بصورة شبه كاملة، وتعرضت المصانع والمتاحف والجامعات والمعالم الأثرية للنهب والتجريف، وأن الاقتصاد تحديدًا، يعاني في غمرات الموت، وكل شيء، تقريبًا، على حافة الهاوية، ما يعني– وذاك هو الطوق الوحيد للنجاة– العمل بهمّة؛ لإعادة بناء الدولة على أسس حديثة ومتينة، واستلهام تجارب مشابهة خرجت من تحت ركام المآسي.
تبدو الخرطوم حاليًا أشبه بطوكيو عندما خرجت من الحرب العالمية الثانية، وأُعيد بناء المدينة من الصفر تقريبًا.
بعد الحرب العالمية الثانية وزلزال كانتو الكبير لم يبقَ من حطام العاصمة اليابانية سوى فندق إمبريال، وتحولت معظم المنطقة التي أُعيد بناؤها بعد الزلزال إلى أنقاض ورماد. في كتابه “زلزال كانتو العظيم وخيال إعادة الإعمار الوطني في اليابان”، بحث المؤرخ جيه تشارلز شينكينج كيف اقترح المسؤول الاستعماري السابق جوتو سيمبي خطة ضخمة ومكلفة لإعادة الإعمار عرفت فيما بعد باسم “خطة الـ 800 مليون ين”.
على الرغم من انخفاض الميزانية بشكل كبير ومقاومة السكان المحليين، نجح مشروع إعادة الإعمار الذي استمر ست سنوات في تحديث الجزء المركزي من طوكيو. وتم إنشاء نظام شوارع منظم يضم أرصفة وجسورًا وساحات صغيرة ومساكن عامة وثلاث حدائق واسعة – جميعها في أماكن كانت تفتقر سابقًا إلى مساحات مفتوحة.
ورغم أن معظم “أصول” هذا المشروع قد دُمرت خلال الحرب، إلا أنها أصبحت قاعدة مهمة لإعادة إعمار المدينة.
كان الاقتصاد هنالك أيضًا يعاني بعد الحرب وطوكيو شبه مدمرة بالكامل، ومع ذلك لم تستسلم، ولعل من المؤسف القول؛ إن الحرب نقلت السودان نقلة خطيرة، من رصيف الدول النامية إلى غرفة الإنعاش، وأصبح اليوم كما لو أنه رجل أفريقيا المريض، دون مبالغة في الوصف، بعد أن كان مرشحًا ليكون سلّة غذاء العالم، وهي ردة لا نظير لها في التجارب المعاصرة، مما يتطلب كضرورة حاسمة، ثورة إصلاحيّة عميقة الجذور، أسوة بالتي حدثت في اليابان، إذ إن العالم كله يمضي للأمام، بخطى وئيدة، أو على طريقة نظرية الإوزّ الطائر، تلك التي تقوم بتصوير عملية النمو الاقتصادي في دول شرق آسيا، وتأتي اليابان في مقدمة ذلك السرب.
قد يكون من المفيد للسودانيين النظر في تجربة اليابان، ليس لما انتهت إليه من ثورة صناعية، ولكن من البداية المُدهشة والخروج السريع مِن عُنق الزجاجة، وذلك بالضرورة يتطلب تحطيم ما تبقى من جهاز الدولة البيروقراطي، والأفكار السياسية البالية للنظام القديم.
بالعودة للعام الأخير من الحرب العالمية الثانية، وبينما الأنفاس مُتصاعدة، نفّذ الحلفاء هجومًا جويًا بقنابل حارقة، قضت والتهمت نحو 67 مدينة يابانية، ثم تلا ذلك إلقاء أميركا قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناجازاكي لتستسلم طوكيو أخيرًا، وتنتهي الحرب بدمار هائل في كل أجزاء اليابان تقريبًا، ونتج عن ذلك نهاية القبضة الإمبراطورية، ودمار الاقتصاد والحياة القديمة كلها، حتى ظنّ الجميع أن اليابان لن تقوم لها قائمة بعد ذلك اليوم الأسود.
لكن العقل الياباني لم ينهزم، وقد أخذ رئيس الوزراء حينذاك يوشيدا المهمة على عاتقه بقدر من الجدية، وحول النقمة إلى نعمة؛ تحقيقًا لما عرف بعد ذلك بالمعجزة اليابانية، والتي حدثت في أقل من عشرين عامًا، تحت شعار: (فوكوكو كيوهيي)، والتي تعني تنمية القوة الاقتصادية والعسكرية للبلد، في محاولة جادّة للحاق بالركب الغربي الصناعي، والسير فوق جُملة مشروعات إصلاحية، استهدفت القوانين أولًا، ومن ثم التعليم والإنتاج الزراعي، وقبل كل شيء بناء شخصية الفرد على نموذج “غامان”، الذي يعتنقه الياباني منذ الصغر، وهو مجموعة إستراتيجيات تهدف للتعامل مع الأحداث الخارجة عن السيطرة، حد أن الأفراد يطورون في أنفسهم قدرةً خارقة على تحمل أشياء غير متوقعة أو سيئة، ومن العسير اجتيازها بنجاح، مثل: الزلازل والمصاعب الأخرى الحياتية.
سعى غوتو المسؤول الياباني وزملاؤه إلى إنشاء عاصمة إمبراطورية جديدة وحديثة تُبرز قوة الدولة وسلطتها. علاوةً على ذلك، سعوا إلى إنشاء مدينة مركزية ومخططة للغاية، تُمكّن الدولة من إدارة رعاياها بشكل أفضل، والتخفيف من حدة الآفات الاجتماعية، وما يُلاحَظ من تراجع أخلاقي واقتصادي وسياسي في المجتمع. واعتقدوا أن ذلك يُمكن تحقيقه من خلال اعتماد تخطيط عمراني استباقي، وتوسيع مرافق الرعاية الاجتماعية الشاملة. كان في قلب هذه الخطط سلسلة من الطرق الواسعة وشبكات النقل العام، والتي اعتقد العديد من المخططين أنها ستكون بمثابة “شرايين” العاصمة. ومع ذلك، إلى جانب النقل، ستشمل طوكيو الجديدة مشاريع إسكان عام جديدة واسعة النطاق، ومستشفيات حديثة، وعيادات رعاية وقائية، ومدارس، ومرافق رعاية نهارية، وملاعب رياضية وحدائق، ومكتبات متنقلة، وقاعات محاضرات، وكافيتريات عامة، ومراكز مجتمعية في الأحياء. وقد لاقت هذه الخطة معارضة شديدة من قبل الحكومة لكنهم في النهاية وافقوا على اصدار سندات لتمويل مشروع إعادة الإعمار ليكون بمثابة اللبنة الأول في ظهور طوكيو الحديثة.
ثمة مشكلة هنا تتعلق بوضع حد للأيادي الخارجية التي تعبث بموارد السودانيين، ومن بينها الذهب المُهدر والذي نحتاج إليه في مشروع النهضة الجديد. إذ إن أكثرَ ما أضرّ بالاستقرار خلال العقود السابقة، القابليةُ السودانيّة للتدخلات الأجنبية، وازدهار أسواق العمالة السياسية للخارج، وهو مأزقنا الراهن بالضبط، ويمكن للقوى الوطنية تدارك استقلالية القرار، في خضم مكابدتهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ربما ليس بالضرورة تقفّي أثر المعجزة اليابانية وقع الحافر بالحافر، فللسودان خصوصيته وتفرده حتى في الفجائع، بينما اليابان دولة استثنائية في هذا العالم، لكنها أيضًا أقرب تجربة لما يمكن للمرء أن يفعله بُعيد الهزيمة والدمار، فالحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها، فهو أحق أن يأخذ بها، وأمام الشعب السوداني ورئيس الوزراء د.كامل إدريس فرصة نادرة وآخيرة.