آخر الأخبار
المقالات

عزمي عبد الرازق يكتب: وزارة المالية والبنك المركزي في وجه العاصفة: من يتحمل مسؤولية تدهور العملة السودانية؟

 

شهد الجنيه السوداني تدهورًا غير مسبوق خلال المرحلة ما بين (2019 – 2025)، والتي تُعد الأكثر دراماتيكية وانهيارًا. فقد وصل سعر الدولار خلال العام الحالي 2025 إلى نحو 2,770,000 جنيه، وهي، بلا مبالغة، وطأة كارثية تستدعي قرع جرس الإنذار.

لا شك أن سعر الصرف مؤشر أساسي لحالة الاقتصاد عمومًا. ولذلك، تُظهر الأرقام الأخيرة لتدهور العملة السودانية مقابل الدولار أن الجنيه فقد فعليًا معظم قوته الشرائية تقريبًا على مدار العقود الماضية، خاصة منذ عام 2019. ويعكس هذا التدهور أزمات اقتصادية وسياسية عميقة ومتفاقمة، إلى جانب الحرب، وسوء الإدارة الاقتصادية والفساد، والعجز المستمر في تحقيق إيرادات كافية من الصادرات لتغطية الواردات، والاعتماد المفرط على تصدير الذهب دون تنويع الصادرات.

بالضرورة، كلما تدهورت الأوضاع، زادت رغبة الأفراد والشركات في الاحتفاظ بالدولار أو الأصول الثابتة كملجأ آمن، مما يزيد الضغط على العملة الوطنية.

لا شك أن العوامل الكامنة وراء هذا الانهيار متعددة ومتشابكة، وتتطلب معالجة شاملة تتجاوز السياسات النقدية وحدها.

يُعد البنك المركزي السوداني، بحكم القانون، مسؤولًا عن استقرار سعر الصرف والتحكم في معدل التضخّم. غير أن واقع الحرب المفروضة على البلاد فرض عليه أولوية قصوى، وهي الحفاظ على بقاء الدولة. هذا لا يعني بالطبع تخليه الكامل عن مهامه الأساسية؛ فالدليل الأكبر على ذلك هو محافظته، في ظل العدوان المدعوم خارجياً، على قدر معقول من استقرار قيمة العملة الوطنية.

لقد اضطلع البنك بمسؤوليات جسيمة لسد الفراغ الذي خلفته وزارة المالية، التي عجزت حتى الآن، وبعد مرور أكثر من عامين على اندلاع الحرب، عن توفيق أوضاعها واستعادة فاعليتها. اعتمدت الوزارة بشكل شبه كامل على البنك المركزي في تغطية الرواتب وتوفير النقد الأجنبي لتلبية احتياجات المجهود الحربي، دون أن تسدد حتى المقابل المحلي لهذه الالتزامات. وهذا الوضع أدى إلى الإفراط في طباعة النقود، وما تبعه من تراجع نسبي في قيمة العملة الوطنية.

لا يمكن للبنك المركزي، مهما بذل من جهود، أن يضطلع بدوره ودور وزارة المالية في آنٍ واحد دون أن تنعكس هذه المعادلة المختلة سلبًا على مؤشرات الاقتصاد الكلي، مثل سعر الصرف والتضخم وغيرها. فالموازنة بين دعم المجهود الحربي والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي مهمة تفوق إمكانيات أي مؤسسة بمفردها.

إن الحل يبدأ بتحمل وزارة المالية والحكومة الجديدة لمسؤولياتهما كاملة، بعيدًا عن الاعتماد الكلي على البنك المركزي. كما يجب على مؤسسات الدولة الأخرى الالتزام بالضوابط المنظمة للاستيراد، خاصة أن الجزء الأكبر من الواردات يُمول عبر السوق الموازي من خلال الموانئ والمعابر المفتوحة أمام السلع “الهامشية”.

علاوة على ذلك، يتطلب الأمر من الجهات المختصة ضبط تهريب الذهب إلى الخارج، وهو ما يستنزف جزءًا كبيرًا من احتياطيات البلاد. ولا بد أن تتحرك الحكومة، بجميع مؤسساتها، للحصول على دعم خارجي يسهم في تعزيز احتياطيات البنك المركزي من النقد الأجنبي وسد فجوة العجز في الحساب الجاري، لتعزيز قدرته على دعم الاقتصاد الوطني.

إذا استمرت هذه الجهات في تقاعسها عن أداء دورها – وهو ما نراه ماثلًا في الوقت الراهن – فإن النتيجة الحتمية ستكون المزيد من التدهور، ليس فقط في قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، بل في مختلف جوانب الاقتصاد الوطني ومؤشراته الكلية.

لقد اضطلع البنك المركزي، دون أي دعم خارجي أو استدانة، بأدوار مهمة انعكست آثارها بشكل مباشر في ميدان المعركة. ورغم فقدانه أطنانًا من الذهب ومئات الملايين من الدولارات من مقره الرئيسي بالخرطوم وفرعه الرئيس بشارع البرلمان، تمكن من إعادة بناء جزء من احتياطياته وتحمل مسؤولياته، بل ومسؤوليات غيره. ومع ذلك، كان هذا بالتأكيد على حساب استقرار مؤشرات الاقتصاد الكلي، التي كافح وحيدًا للحفاظ عليها ضمن حدود “المعقول” نسبيًا لأكثر من عامين.

مؤكد أن صمود البنك المركزي السوداني في هذه الظروف الاستثنائية يبرز مرونته وقدرته على التكيف، لكن استدامة هذا الصمود تتطلب تضافر جهود جميع مؤسسات الدولة والدعم الدولي لضمان مستقبل اقتصادي أكثر استقرارًا للسودان.

زر الذهاب إلى الأعلى